[سعادت حسن مَنتو واحد من أشهر كتاب القصة القصيرة بالأردو وأكثرهم إثارة للجدل. ولد منتو في أيار سنة ١٩١٢ قرب مدينة لودِيانا في أقليم بنجاب (في الجزء الذي أصبح لاحقاً في الهند) وتوفي في كانون الثاني سنة ١٩٥٥ في مدينة لاهور في باكستان. نشر إثنين وعشرين مجموعة قصصية ورواية واحدة بالإضافة إلى سيناريوهات عديدة للسينما والإذاعة. وعمل في الأربعينيات في صناعة الأفلام الهندية في مدينة بومباي (مومباي حالياً) ككاتب سيناريو. لا يوجد له نظير في معالجة جنون التقسيم الذي تعرضت له شبه القارة الهندية أثناء التحرر من الحكم البريطاني سنة ١٩٤٨. فضح نفاق المجتمع أثناء المذابح الطائفية وقت التقسيم عبر تناوله لأكثر فئات المجتمع تهميشاً كالمومسات والقوادين وأكثر المواضيع حساسية كسفاح المحارم واضطهاد النساء. حوكم عدة مرات قبل وبعد الاستقلال بسبب صراحة لغته وفحوى قصصه بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة. وقال: ”إذا وجدتم قصصي قذرة فذلك لأن المجتمع الذي تعيشون فيه قذر وأنا لا أفعل شيئاً في قصصي سوى فضح الحقائق.“]
افتحي
سعادت حسن منتو
وصل القطار الخاص بالنازحين الذي غادر أمرِتسَر بعد الظهر إلى مُغَل پوره بعد رحلة استغرقت ثماني ساعات قتل أثناءها عدة أشخاص، كما جُرح و تشرّد الكثيرون.
في العاشرة صباحا، فتح سراج الدين عينيه وهو ملقى على أرض المخيم الباردة وتلفّت حوله. تراءى له الرجال والنساء والأطفال أمامه كبحر متلاطم الأمواج، فازداد وهن قواه العقلية. وظل لمدة طويلة يحدق في السماء المغبرة وكأنه حصان وُضع الغماء* على طرفي عينيه. مع أنّ المخيم برمّته كان يضج بالضوضاء، كان سراج الدين كالأصمّ لا تسمع أذناه شيئاً. إذا نظر إليه أحد خاله غارقاً في تفكير عميق. ولكنه لم يكن كذلك بل كان مشلول الحواس والوعي، وكان كيانه برمّته معلّقاً في الفراغ.
حدق سراج الدين في السماء المغبرة واستعاد وعيه حين اصطدم ناظراه بالشمس وتغلغل النور الساطع في كل كيانه. تسارعت إلى ذهنه صور متسارعة تراءت له واحدة تلو الأخرى: نهب، حرائق، فرار، محطة قطار، طلقات رصاص، ليل، و…سكينة! فجأة هبّ سراج الدين واقفاً وبدأ يغوص كالمجنون في البحر البشري اللامتناهي حوله باحثاً عنها.
تاه سراج الدين ثلاث ساعات كاملة في أرض المخيم وهو ينادي: ”سكينة! سكينة!“ غير أنه لم يعثر على أثر لابنته الوحيدة الشابة. في هذه الفوضى، كان هناك من يبحث عن ابنه، من يبحث عن أمه أو زوجته، أو ابنته.
بعد أن تعب، جلس في زاوية محاولاً استجماع ذاكرته: أين ومتى أضاع سكينة؟ لكن كلما أجهد ذهنه، كان تفكيره يتجمد عند صورة جثة أم سكينة المبقورة، بأحشائها المنتاثرة أمامه.
ماتت أم سكينة. لفظت أنفاسها الأخيرة أمام عينيه. ولكن أين هي سكينة، التي أوصته بها أمّها وهي تحتضر: ”أتركني، خذ سكينة في الحال واهرب من هنا.“
اصطحب سراج الدين سكينة معه وركضا حافيين حين سقط دُوپَتَّه سكينة عنها. أراد أن يتوقف ليلتقطه فصاحت به: ”أتركه يا أبي!“ لكنه التقطه لتوّه. سراج الدين غارق الآن في التفكير. نظر إلى جيب سترته المهترئ، مدّ يده وغاص فيه، مخرجاً قماشاً ما. كان دوپَتّە سكينة بعينه. ولكن أين سكينة؟؟
رغم محاولات التذكر التي أرهقت ذهنه إلا أنّ سراج الدين لم يصل إلى أي نتيجة. هل اصطحب سكينة معه إلى محطة القطار؟ هل صعدت إلى القطار برفقته؟ وعندما أُوقِف القطار على الطريق وداهمه المشاغبون، هل أغمي عليه؟ هل خطفوا سكينة وهو غائب عن الوعي؟
لم يجد سراج الدين في ذهنه غير أسئلة تتوالى من دون أجوبة. كان بحاجة إلى المؤازرة، غير أنّ كل الناس المحيطين به كانوا أيضاً بحاجة إلى المؤازرة. أراد أن يبكي ولكن عينيه لم تسعفاه. الله أعلم أين اختفت الدموع.
بعد ستة أيام، عندما استعاد سراج الدين صوابه بطريقة ما، التقى بأناس كانوا على استعداد لمساعدته. كانوا ثمانية أو تسعة شبان يمتلكون شاحنة وأسلحة. وصف لهم ملامح سكينة - إنها فاتحة البشرة وجميلة جداً. هي...لا تشبهني بل تشبه أمها. تبلغ من العمر١٧ سنة تقريباً. عيناها كبيرتان وشعرها أسود. ولديها شامة كبيرة على خدها الأيمن. إنها ابنتي الوحيدة. أرجوكم، اعثروا عليها ولكم الثواب عند الله!
بحماس بالغ، طمأن الشبان الرضاكاريّون سراج الدين الكهل بأن ابنته، إذا كانت حية، فستكون معه خلال بضعة أيام فقط.
بذل الشبان الثمانية قصارى جهدهم. خاطروا بحياتهم لكي يذهبوا إلى اَمرِتسَر. أنقذوا الكثير من الرجال والنساء والأطفال وأتوا بهم إلى مناطق آمنة. ولكن حتى بعد مضي عشرة أيام لم يعثروا على سكينة.
في أحد الأيام، وهم في طريقهم إلى أمرتسر على متن شاحنتهم، لمحوا فتاة على قارعة الطريق في أطراف المدينة. عند سماعها صوت الشاحنة أجفلت وبدأت تركض. أوقف الرضاكاريّون شاحنتهم وترجلوا منها ولحقوا بالفتاة. أمسكوا بها وسط أحد الحقول. كانت جميلة، ولديها شامة كبيرة على خدها الأيمن. سألها احد الشبان: ”لا تفزعي, هل أنت سكينة؟“
ازداد لونها شحوباً ولم تُجِب. طمأنها الشبان مجدداً فخفّ ذعرها واعترفت لهم أنها ابنة سراج الدين. واساها الرضاكاريّون الثمانية وقدّموا لها الطعام والحليب وأخذوها إلى الشاحنة. خلع أحدهم سترته وأعطاها لها لأنها كانت تشعر بالارتباك من دون الدوپّتّه الخاصة بها ولأنها لم تستطع ستر صدرها بذراعيها.
مضت عدة أيام من دون أي خبر عن سكينة. كان سراج الدين يتجول يومياً بين المخيمات والدوائر الرسمية المختلفة من دون نتيجة. وفي الليل، لم يكن ينقطع عن الدعاء من أجل توفيق هؤلاء الشبان الرضاكاريون الذين أكدوا له بأنهم سوف يعثرون على ابنته خلال بضعة أيام. في أحد الأيام، لمح سراج الدين هؤلاء الرضاكاريّون الشبان جالسين في شاحنتهم في المخيّم.
هرول نحوهم. كانت الشاحنة توشك على الانطلاق عندما بلغها وسألهم: ”يا أولادي، هل علمتم شيئاً عن سكينتي؟“
أجابوه بلسان واحد: ”سيُعلَم عنها, سيُعلَم.“ وانطلقت الشاحنة. أطلق سراج الدين دعاءه مرة أخرى من أجل توفيق هؤلاء الشبان.
في المساء نفسه، حصلت بلبلة في المخيم. كان سراج الدين جالساً حين رأى أربعة رجال يحملون شيئاً.
عندما سألهم، أجابوه أنّ هناك فتاة وُجدت مغمى عليها قرب سكة الحديد وأنهم أتو بها للتو.
تبعهم سراج الدين. سلّم الرجال الفتاة إلى المستشفى. اتكأ سراج الدين فترة على عمود كهربائي خارج المستشفى، ثم تخلى عن تردده وقرر أن يدخل ويسأل. كانت الحجرة التي دخل إليها خالية إلا من حمالة ألقيت عليها جثّة. تقدّم متردداً منها. فجأة أضيئت الحجرة فرأى شامةً لامعة على وجه الجثة الشاحبة اللون,فصرخ: ”سكينة!“
سأله الطبيب، الذي كان قد أضاء الحجرة: ”ما الأمر؟“
لم يفلح لسانه في نطق أي كلمة سوى ”سيّدي...إني...إني...والدها!“ نظر الطبيب إلى الجثة المرمية على الحمالة، ثم جسّ نبضها وقال لسراج الدين: ”إفتح الشباك“
انتفض جسد سكينة الميت. تحركت يداها بشكل تلقائي وقامت بفتح عقدة سروالها وخلعه. صرخ سراج الدين بفرح: ”إنها حية! ابنتي حيّة!“
وبدأ العرق يتصبب من رأس الطبيب إلى أخمص قدميه.
[ترجمة سونيلا موباي. مع الشكر لإلياس خوري]